خطبة بعنوان: كورونا يكشف الستار عن قيمة حملة القرآن الكريم
(في غيابه (الطلبة) عن التراويح ساد الضلال المبين في الاعتداء على الكتاب المبين)
الحمد لله الذي جعل حفظ القرآن إلى رضوانه سبيلا، وجعل تطبيقه على صدق الإيمان دليلا، وجعل الاقتداء به شرطا حتى يكون عمل المسلم مقبولا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صفة وأفعالا، سبحانه وتعالى لا نتخذ من دونه وليا ولا وكيلا، وأشهد أن سيدنا محمدا أرسله الله فأنزل عليه القرآن تنزيلا، فكان أفضل من رتله ترتيلا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه التالين للقرآن بكرة وأصيلا، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن يلقى الإنسان ربه يوما ثقيلا.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
انتشرت في المواقع الاجتماعية مجموعة من الفيديوهات لبعض العوامّ تولَّوْا الإمامة في التراويح في المنازل فجاؤوا بالضلال المبين في الاعتداء على الكتاب المبين؛ أراد أن يكحلها فأعماها، وأن يفيقها فأغماها
أولا: ارتكبوا أخطاء فادحة في القراءة حرفوا بها الكلم عن مواضعها؛ فكانت خطايا، والخطايا في كتاب الله ذنوب وبلايا.
ثانيا: ارتكبوا أخطاء حين أقحموا أنفسهم فيما لا يعلمون ولم يحترموا قواعد التخصص؛ وهذه خطيئة في كل مجال وخصوصا في كتاب الله تعالى.
ثالثا: ارتكبوا أخطاء حين تدخلوا فيما لا يعنيهم؛ فهذا تطفل وجرأة وأخطرها ما كان منها على كتاب الله تعالى.
رابعا: ارتكبوا أخطاء حين سجلوا خطاياهم؛ فكانت دليلا على جهلهم وغرورهم.
خامسا: ارتكبوا أخطاء حين نشروا ما سجلوا من خطاياهم؛ فكانت دليلا على حمقهم وغبائهم.
سادسا: ارتكبوا أخطاء حين تركوا السور القصيرة السهلة اليسيرة على شاطئ بحر القرآن الكريم حيث الكوثر والإخلاص والفلق والناس؛ فضلوا وأضلوا من اقتدى بهم.
سابعا: ارتكبوا أخطاء حين أبحروا بفُلْكهم المتهالكة إلى أعالي البحار في القرآن الكريم حيث سور البقرة وآل عمران والنساء؛ فغرقوا وأغرقوا من إئتمَّ بهم.
ثامنا: ارتكبوا أخطاء حين تقدموا بين يدي الله ورسوله؛ فأقدموا على ما لا يحسنون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهذه أعظم بلية، وأفظعها أن تكون في كتاب الله.
وهذا كله يكشف لنا الستار عن قيمة حملة القرآن الكريم (الطلبة) في مجتمعنا، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر؛ وظاهرة احتقارهم قد انتشرت في مجتمعنا منذ زمان، يعتبرها بعض الناس هينة وهي عند الله عظيمة؛ فبعض المتكبرين ينظرون إليهم النظرة الدونية، مرددين مع عدم الاحترام وقلة الاهتمام: (هؤلاء غير مجرد طلبة) تحقيرا وتنقيصا...
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن حملة القرآن الكريم هم أشرف الناس، أكرمهم الله تعالى بكلامه يحملونه في صدورهم، وجعل ألسنتهم آلة لترديده، حتى يسمعه غيرهم فيبلَّغ به، وهم المصطفون الأخيار، يقول الله تعالى فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}، وفيهم يقول النبيﷺ: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، ويقولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يشتد عليه له أجران»، ويقولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرآنَ، فَوَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإِبِلِ في عُقُلها»، ويقولﷺ: «إن لله تعالى أهلين من الناس. قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم أهل القران أهل الله وخاصته»، ويقولﷺ «إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب».
والقرآن الكريم له حقوق علينا وهي: حق التطبيق، وحق التلاوة، وحق الحفظ والتحفيظ، وحق الشرح والتفسير، وحق التدبر والتفكير؛ وحملة القرآن قد أدوا نيابة عن الأمة حقين عظيمين من هذه الحقوق وهما: حق التلاوة، وحق الحفظ؛ فلا بد من إكرام حملة القرآن الكريم ماديا ومعنويا، وقد يكونون من جيراننا وأهلنا، فمن لم يستطع حفظ القرآن فليكرم ماديا بالاهتمام، ومعنويا بالاحترام؛ لأن الرسولﷺ يقول: «من جهز غازيا فقد غزا»، وخصوصا منهم هؤلاء الذين يحافظون على هذا الحزب الراتب الذي تتميز به المساجد في بلادنا صباح مساء، الذين يقول عنهم النبيﷺ لما سئل: «يا رسول الله؛ أي الأعمال أفضل؟ قالﷺ الحال المرتحل. قال: يا رسول الله؛ وما الحال المرتحل؟ قالﷺ: صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ومن آخره حتى يبلغ أوله كلما حل ارتحل»؛ وأخص منهم من لا يزال يمارس عملية الحفظ والتحفيظ، في المدارس القرآنية، احترموهم وأكرموهم ولا تحتقروهم، وقد كان أجدادنا في المجال القروي -معقل المدارس العتيقة- يُعْرَفون بما يسمى "ترتبيت" أو بالدارجة "الرتبية" والمراد بها أن تتكفل كل أسرة في القبيلة بإطعام طالب واحد ما دام في مهمته العلمية حتى يتخرج حافظا أو فقيها، ولا يتحرجون من ذلك أبدا، وهي تدخل ضمن ما يسمى بالإحسان التعليمي الذي كان للمغرب فيه دور تاريخي مشهود...
أيها الاخوة المؤمنون؛ إن أغلب حملة القرآن لم يأخذوا حقهم الذي يستحقون؛ فهم خارج التغطية في كثير من حقوقهم المدنية التي يتمتع بها غيرهم، الشيء الذي اضطر أغلبهم لانتظار مناسبات من أحداث الأفراح وحوادث الأتراح ليستفيدوا ولو بالهجوم، وليعيشوا بالاستجداء، وأحيانا يصل إلى حد التسول والتوسل على أبواب منازل الناس في مناسباتهم، فيكون نصيب حامل كتاب الله أحد الأَمْرَيْن أو أحد الأَمَرَّيْن: الطرد والتسفير، أو الحرمان والتصفير حسب مصطلحاتهم الخاصة؛ فإذا غُلِّقت عليه الأبواب فهو التسفير، وإن فتحت له ولم ينل نصيبه بين إخوتهم فهو التصفير، والرسولﷺ يقول فيما روى الإمام مسلم: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ»...
وكل هذا كان نتيجة حالة حملة القرآن في تسعينات القرن الماضي وما قبلها، حيث كان أحدهم يقضى جل شبابه في حفظ القرآن الكريم، ليجد أقرانه بعد ذلك قد كونوا أسرهم وشاركوا في الحياة الاجتماعية بمشارعهم، فيأتي متأخرا ليستدرك ما فاته من الدنيا، عله يدرك ما يشبع به جوعته، ويداوي به لوعته ويستر به عورته، فيجد الآفاق قد سدت أمامه.
أما اليوم -ولله الحمد- بفضل الله تعالى أولا وبفضل نظام التعليم الإسلامي العتيق، الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف تحت قيادة أمير المؤمنين حفظه الله ونصره فقد فُتِحَتْ لحملة القرآن الكريم جميعُ الآفاق، واستطاع جل الشباب منهم اليوم الحصول على حقوقهم مثل غيرهم سواء بسواء؛ فقد انخرطوا في الجامعات والكليات، وحصد جلهم المراتب الأولى في النقط والتقديرات، فتخرجوا ليكونوا اليوم أساتذة في الإعداديات وفي الثانويات، وموظفين في غيرها من المؤسسات. جعلنا الله جميعا ممن يرددون ملحين:
{الْحَمْدُ لِله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}.
{الْحَمْدُ لِله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
{الْحَمْدُ لِله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله}.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون؛
أقول لحملة القرآن الكريم: "القمة في رفع الهمة"؛ إن الوصول إلى القمة عند الله تعالى بما في صدوركم من القرآن، لا يكون إلا برفع الهمة عما عند الناس من الاستغناء بالطغيان؛ {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآه اسْتَغْنَى}؛ يكفيكم شرفا أن جعل الله صدوركم أوعية لكلامه، والنبيﷺ يقول: «من قرأ القرآن فرأى أن أحدًا من خلق الله أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فقد صغر ما عظم الله وعظم ما صغر الله}؛ ويقولﷺ: «مَن قرأَ القرآن وعملَ بهِ أُلبِسَ والداه تَاجا يومَ القيامةِ، ضَوؤُهُ أحسنُ من ضوءِ الشمسِ في بيوتِ الدُّنيا لَو كانتْ فيكم، فما ظنكُم بالذي عَمِلَ بهذا؟»، ويقولﷺ: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرءها».
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، أهل الصدق والوفاء، وعن بقية الصحابة الشرفاء، اللهم ثبت في قلوبنا محبتهم، وأحينا على سنتهم، وأمتنا على ملتهم، واحشرنا في زمرتهم.
اللهم وفق للخير جلالة الملك محمد السادس، اللهم أصلحه وأصلح به العباد والبلاد، واحفظه في ولي عهده مولاي الحسن، وشد أزره بشقيقه الرشيد مولاي رشيد، وجميع الأسرة الملكية الشريفة.
اللهم تغمد برحمتك الواسعة فقيدي العروبة والإسلام وبطلي التحرير والاستقلال، جلالة المغفور له محمد الخامس وجلالة المغفور له الحسن الثاني، اللهم أكرم مثواهما وطيب ثراهما.
اللهم احفظ الإنسانية المحن والفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم اشف الأمراض، واقض الأغراض، واستر الأعراض، اللهم بجاه حب نبيك المصطفى، في قلوب عبادك الضعفاء، أكرم الإنسانية بعاجل الشفاء.
اللهم اجعل ما نمضي إليه أجمل مما مضى، واقض لنا فيما بقي من أيامنا أفضل مما انقضى، واختم لنا بما يجعلنا ممن رضي برضاك وارتضى، وممن ينال مغفرتك وعفوك المرتضى. اللهم ارحمنا، وارحم والدينا، وارحم من علمنا، وارحم موتانا، وأصلح أحياءنا وارحم بفضلك جميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ورحم الله عبدا قال آمين...